Abstract:
ملخص الرّسالة
الأسلوبيّة مدرسة نقديّة تميّزت عن غيرها من المدراس الأخرى بطريقة تناولها للنّصوص الأدبيّة من جميع الجوانب ، إذ أنّها بتغلغلها للبنية العميقة للنّصوص؛ تمكّنت من استكناه مكنونات النّصّ والانحدار إلى أعماقه ، لذلك كانت الأسلوبيّة هي السّبيل الذي سارت عليه الدّراسة ، ولأنّ تراثنا الأدبيّ جزء لا يتجزّأ من حضارتنا ، ولا يمكن للمستقبل أن يكتمل دون الاعتماد على هذا الموروث الثّقافي ؛ جاءت هذه الدّراسة لتشكّل جسراً يربط الماضي بالحاضر ، إذ تناولت الدّراسة اتّجاهاً نقديّاً حديثاً على ديوان شاعر قديم ، فقد ولد عليّ بن الجهم عام مئة وثمانية وثمانين للهجرة ، وتوفي عام مئتين وأربعة وتسعين عاصر مجموعة من الخلفاء العبّاسيين وشهد الكثير من الأحداث المهمّة ، وشكّل شعره وثيقة تاريخيّة إنسانيّة لما لاقاه هذا الشّاعر من ظلم ، كما أنّ شعره اعتمد على العديد من الظّواهر التي شكّلت ملامح أسلوبيّة مميّزة ، كانت تحمل دلالات أبعد من معانيها المعجميّة ، وقد توقّفت الدّراسة عند هذه الظّواهر مبرزة أكثرها جلاء في ديوانه ، إضافة إلى ما حملته هذه الظّواهر من دلالات ، وقد أظهرت الدّراسة أنّ شعره كان كبستان متنوّع الأشجار والثّمار ، فجاءت النّتائج تتناسب مع هذا الشّعر .
وتكوّنت الدّراسة من مقدّمة وأربعة فصول ، تناول الفصل الأول فقد تناول تجليّات الانزياح في شعر ابن الجهم ، فقد جاء في مبحثين الأول الذي تناول الانزياح الاستبداليّ المتمثّل بالاستعارة والتّشبيه والكناية ، هذا الانزياح الذي أخرج الشّعر عن الرّتابة والنّمطيّة ، وخلق في فضاء النّصّ إثارة وتجديداً في المعاني والصّور ، أمّا المبحث الثّاني فتناول الانزياح التّركيبيّ مشتملاً على التقدّيم والتأخير والفصل والالتفات ليحملوا دلالات بعيدة المدى ، فالانزياحات تجاوزت الدوال المعجميّة دلالاتها الأصليّة إلى دلالات أخرى إيحائيّة، بما أحدثته الاستعارة من مفارقة دلاليّة أتاحت للشّاعر أن ينقل صوره وخطابه الشّعريّ من النّمط العاديّ المباشر إلى النّمط الشّعريّ غير المباشر، ممّا أدّى إلى تحويل الأمور المعنويّة إلى أمور ّحسيّة وتحويل الأمور المجرّدة إلى أمور محسوسة، لأنّ الاستعارة أظهرت صورة للحياة التي كان الشّاعر يعايشها بكلّ ما فيها من قضايا وأمور ، وكشفت بشكل أو بآخر رؤية الشّاعر لأمور معيّنة في الحياة .
أمّا الفصل الثّاني فتناول تجليّات التّناص في شعره ، التّناص الدّينيّ والأدبيّ ، إذ استثمر ابن الجهم الانزياح الدّينيّ كسلاح للرّدّ والرّدع ، لأنّه الأصدق والأقدر على إقناع ؛ فجاء استشهاده بالآيات ، دليلاً دامغاً على صدق قوله ، وإيمانه بقوله وموقفه ولم يتردّد الشّاعر في توظيف أقوال وشخصيّات أدبيّة من جميع العصور التي سبقته ، فكان للجاهلي والإسلاميّ والأمويّ وحتى المعاصرين له نصيب من شعره ، فكان يتناص معهم في كلّ مرّة بأسلوب مختلف ، فجاء استدعاء الاسم أحياناً ، والقول أحياناً أخرى ، على أنّه لم يكتفِ بذلك بل ظهر استدعاؤه للحالة المشابهة لحالته واستدعاؤه للمعنى في أماكن أخرى ؛ الأمر الذي كشف للدّارسة أنّ الشّاعر كان حريصاً أشدّ الحرص على التّنوّع والتّميّز ، ليمنح نفسه خاصيّة لم يصلها غيرها من الشّعراء .
أمّا الفصل الثّالث فتناول مجموعة من الظّواهر الأسلوبيّة الأخرى التي برزت في شعره ، وبحث ما حملته هذه الظّواهر من دلالات معجميّة ودلالات تجاوزت إلى البنية العميقة للمعنى ، فجاء التّكرار ملمحاً بارزاً برزت به العديد من الدّلالات ، فجاء في إشارة للفخر والغضب وإظهار العزّة والصّمود وتأكيد مبادئ الشّاعر ، وأثرى الحوار الدّيوان بالدّراما القصصيّة ، حيثّ شكّل الحوار بنية قصصيّة وإن كانت لم تشتمل إلا على الرّاوي فقط المتمثّل بالشّاعر إلّا أنّها نقلت جانباً قصصيّاً مميّزاً ، ورسم المكان تقاطعاً مع الزّمان فشكّل حركة إيقاعيّة رائعة ، تعانق فيها الحاضر بالماضي فخلق تواصلاً بينهما ، كما أدّى البديع وظيفة إيقاعيّة بارزة بتوظيف ابن الجهم للجناس والتّصريع ، والتّضاد ، والتّدوير ، كما حمل معانيَ معجميّة ودلاليّة مزجت بين المعنى والإيقاع ليكمل أحدهما الآخر ؛ فيؤدّي إلى ميلاد معاني موسيقيّة ، ودلالات إيحائيّة بنكهة إيقاعيّة متميّزة تثير اهتمام المتلقّي وفضوله ؛ فيصيخ السّمع بتركيز ووعي.
وتناول الفصل الرّابع الصّورة الشّعريّة التي شكّلت عموداً مهمّاً من أعمدة النّجاح وركائزه إذ غلب على الصورة عند ابن الجهم تكثيفها وبروزها في شكل مركب كشف عن علاقتها بصورة أو بأخرى بالواقع الذي يعيشه ، وبالمجتمع الذي يحيط به ، كما تميّزت صور بالجهم بأنّها كانت لوحة فنيّة لونيّة ، تعجّ بالحركة والإيقاع ، رسم بها صورة لمجتمعه العبّاسيّ ، وحياة البذخ والتّرف التي كانوا يعيشونها .